هاهو الليل قد أسبل إزاره الليلكي الآسر ..وتوشحّ القمر بنوره اللؤلؤي الساحر ..وبدأت نجوم السماء تتورد خجلا نورانيا وكأنها الصبايا الفاتنات يتحليّن بغية نظرة من عين القمر ..
وهاهو "لؤي" يختلس النظر عبر نافذة مطلة على تلال كأمواج البحر الهاديء تحيط بقريته الصغيرة ..تتماوج بظلال معتمة إلا من أضواء ترامت هنا وهناك لقناديل تعلقت بين جدران البيوت علّها تبدد القليل من حلكة الأزقة المتعرجة بينها ..
"هكذا أنت يا ليل ..غاية في الروعة " قال لؤي في نفسه .."لهذا أعشق النظر إليك ..وأهيم حبا بعسعساتك .. و أهوى رؤية البدر في سماءك .."
تمدد لؤي على سريره ..وعيناه ما زالتا تحدق خارج جدران غرفته الطينية ..كان النعاس قد بلغ منه حدّ الإستعباد وبدأت أحلامه تتفلت منه ..ككل ليلة ..لتحلّق بعيدا نحو بيوت القرية وجدرانها تلك التي لطالما وقفت دونها ..تحاول بعناد إختراقها ..تحاول بجلد النيل من قسوتها ..
وكانت تلك الأحلام ..ككل ليلة أيضا ..تعود إليه ..من دونما جدوى ..تعود والتعب قد أنهكها ..وصلابة الجدران قد أوهنتها .. تعود والحزن يطوف بها إلى أن تحطّ في أعماق روحه ..لتغفو هي الأخرى ممنية ذاتها بليل آخر قادم قريب ..بصولة أخرى علّ فيها النصر أكيد.
لملم الليل أوراقه الصافية وبدأ يطوي صفحاته المتلالية ..وأفسح يحني قامته أمام حضرة الشمس المهيبة ..وقد بدأت تتكشّف عن طلّتها تشتعل مشرقة بعذوبة ساحرة فوق الأراضي الخضراء ..وفوق كل الدروب المعتمة ..وفوق بيوت القرية ..مشهد لا يفوته لؤي مهما حدث ..فشروق الشمس آية عظيمة ..خسر من فاتته .."واحسرتاه عليهم .." همس لؤي بصوت خافت .."وكل يوم يفوتهم شروق الشمس ..وكل يوم ..هم نائمون .."
حمل لؤي أدواته فوق ظهره ..وأدلف بنشاط كبير ..يقطع الطرقات المتعرجة بين بيوت القرية ليصل الأرض الخضراء التي كان يعمل فيها بكل قوته من شروق الشمس ..وحتى المغيب ..
كان يلقي السلام على من يلقاه من أهل القرية ..بكل حب ..بل بالحب كله ..وبسمته كالشمس المشرقة تأسر كل من يراه ..كان فتيا قويا يتدفق شبابا ..في عيونه طعم التحدي ..وفي جبهته معنى الجلَد .."أما أنت فلا أظن فاتتك تلك الآية العظيمة "قال لؤي بينه وبين نفسه بمجرد أن لمح شيخ المدينة .." فمؤكد تشهد شروق الشمس كل يوم ..كل يوم .."
وألقى عليه التحية وغيظ شديد يعتريه يكبل أنفاسه ...لم يعرف له سببا .. لكن ما كان يعرفه أنه يصيبه عندما تلتقي عيناه بعيني ذالك الشيخ الكبير أو عندما يقترب منه بظله المحدودب وعينيه الواسعتين وشعره الأبيض المتدلي حتى أسفل عنقه ..
ذالك هو شيخ المدينة الذي لا تعصى له كلمة ..صاحب الوقار المنغرس في قلب كل أهل القرية من كبيرها وحتى أصغر طفل فيها .
مضى لؤي محاولا محو ذلك الظل العجوز من مخيلته محاولا الإنتهاء من عمله بسرعة كي يعود باكرا قدر الإمكان ..فأمامه عمل شاق طويل لا ينجح إلا ليلا ..عليه أن يرسل المزيد من الأحلام ..ينسجها بخيوط من نور دافق ويمدها بقوة من سويداء قلبه ..وسموٍ من عميق روحه لتعاود التحدي ..تحدي تلك الجدران العنيدة لتخترقها ..لتحاول إجتيازها تغييّرها ..أرأيتم عليه أن يعود باكرا ..فعمله طويل شاق صعب ..صعب .
ككل ليلة عاد لؤي لفعلته عاد ليرسل أحلامه ليبعثها من رقاد طويل ..يرسمها كأجمل ما تكون ..ويرسلها لأبعد ما يكون علها أن تفعل ..علّها أن لا تعود ..علها أن تجد قلبا آخر ينبضها ..روحا أخرى تعيش بها ..لعلها و لعلها تفعل ..
في تلك الليلة بالذات ..حدث أمر غريب ..لم يلحظه أحد ..ولا حتى لؤي ..ولا حتى فتانا الحالم لؤي ..
وأتى من أقصى الليل صباح جديد ..كا ن ضبابيا ..وباردا .. وضاجا صاخبا ..فلقد كانت صيحات أهالي القرية تعج وتتخابط ..هذا يصرخ من هنا وذاك من هناك "من سرق القرية .." "سُرقنا ..!!." من تجرأ واخترق جدرانها العنيدة ...؟." " ..ويحكم ..من تجرّا ..وفعلها .."
نهض لؤي فزعا .. كاد يقفز فرحا ..ولكن ما لبثت فرحته أن تبددت وسعادته تلاشت حين رأى ذاك الضباب وقد تحلّق حول القرية يلفها يعمي بصرها عن كل شيء .." يا حسرتي عليكم ..حتى في اليوم الوحيد الذي تستيقظون فيه ..تفوتكم تلك الآية العظيمة ..يفوتكم شروق الشمس ..يفو تكم ..ويحول الضباب بينكم وبينه ..واحسرتي عليكم .."
تعالت أصواتهم ..وكأنها تقترب بل تكاد تكون داخل غرفته الطينية الصغيرة ..أصابته قشعريرة خوف أو رهبة ..ولا يدري لم ارتسمت صورة ذالك الكهل أمام ناظريه بظله المحدودب ..عينيه الواسعتين وشعره الأبيض المتدلي أسفل عنقه ..ارتسمت بكل ملامحها البغيضة..أمامه ..
أشاح لؤي وجهه بعيدا عن تلك الرؤيا ..وأقبل بإتجاه الباب لكي يفتحه ..فإذا به أمامه ..ليس طيفا بل هو لحما ودما يشير إليه بعكازه الخشبية القديمة ..ووميضا يشع من حدقتيه نارا لهيبا ..هاتفا بكل حقد "هو ..هذا هو ..أعرف أنه هو رأيته بعيني الواسعتين ..رأيته يعبث ليلا بجدران القرية ..يخترقها ..ينهب أهلها .."تلفلت لأهل القرية شادا إنتباههم ..ثم عاود ليحدّق به لوهلة ..وصاح .."رأيتك ..كنت أنت من فعلها ..نعم أنت "
تعالت أصوات أهل القرية ..بين مستاء ومغتاظ ومتعجب ..."أنت .."!!
لم يستطع لؤي الإحتمال شعر بشيء يكتم أنفاسه يقبضها يخنقها هرب دافعا العجوز بعيدا عنه محاولا التقاط ولو نسمة هواء تعينه على الهرب الإبتعاد ..وركض بعيدا عن وجوههم وعيونهم واستنكارهم .."لا زلتم نيام ..لم تستيقظوا ..لم تشهدو ا شروق الشمس ..ولا بزوغ الفجر ..لا زلتم نيام ..وحده هو اليقظ دائما ..وحده من يعرف متى تشرق الشمس ..كيف يطلع الفجر "ركض ركض محاولا الإبتعاد عن صراخهم وضجيجهم ..كانوا أكثر منه ..كانوا أسرع منه ..تهافتوا عليه ..تحلّقوا حوله ..ضيّقول الخناق عليه .. بدأت قواه تخور فوقعت أشلاءه شيئا فشيئا تسنّد إلى يديه ورأسه تتدلى تحدّق في تربة الأرض .." ليس أنا ..لم أكن ....كنت ..كـ ..ـنـ.. ـت.... أحلم لكم ..من أجلكم كنت أرسل كل أحلامي ..لأجلكم .."
لم يمهلوه قيدوه وساقوه إلى القرية ..حيث شيخ المدينة بإنتظارهم يجلس فوق مقعده يسند ظهره على أحد الجدران ..هدأ الجميع ..بما فيهم لؤي والذي كان التعب قد نال منه ..وهدّه هدّا ..فلم تعد تسمع سوى لهاثه ..رموه أمام قدمي العجوز ..حاول بصعوبة النظر إليه هامسا بصمت مطبق لا يسمعه سوى ذاك العجوز " خلصني ..أخبرهم الحقيقة ..تكلم ..ماذا تتنتظر .."
كانت الشمس تنحني غربا تخبيْ وجهها ..خلف تلال القرية ..وقف العجوز ..يرمي ظله المحدودب فوق لؤي ..يغمره فلا تكاد عيناه ترى سوى السواد ..كان العجوز كله ظلا من السواد ..يبتعد عنه رويدا رويدا .. بعيدا ..ولؤي يتوسل إليه همسا.."أين تذهب ..لا تتركني هكذا ...لن تنال من أحلامي ..أقسم لك ..لن تنال مني .."
تجاهل العجوز همسات لؤي ..ومضى يتسارع ظله خلفه ..ليتلاشي مع آخر ومضة من قرص الشمس ..بين البيوت ..بين الجدران ..بعيدا هناك بين التلال..
/
/
/
/
/
*****
..في غرفة تشبه غرفته الطينية..وباب خشبي يشبه بابها غير أن قفله قد أوصد ونافذة تشبه نافذته المطلة على تلال القرية ..غير أن قضبان من حديد كانت تسيجها ....تمنعه من أن يشتم نسيم الليل ..ولا أن يرتشف نور نجومه المتلالي ..وتمنعه من أن يهب صوب الأرض الخضراء تلك التي كانت تربض بين التلال ..ومن أن يلقي التحية بكل الحب على أهالي أهل القرية التي عشق سماءها ..ولثم ماءها ..وتمرّغ جبينه في طينها لكنها ما كانت تمنعه ..من أن يرسل كل ليلة أحلامه ..كل أحلامه ..ينسجها بخيوط من نور دافق ويمدها بقوة من سويداء قلبه ..وسمواً من عميق روحه ..ويبعثها من الرقاد ..ويبعثها من نوم طويل غريق ...وماكان أبدا يفوّت المشهد ..ولا تغيب عنه تلك الآية الخلاّقة ..كل يوم كل فجر جديد .
منتديات الساخر
منتديات المربد
رواء الأدب
وهاهو "لؤي" يختلس النظر عبر نافذة مطلة على تلال كأمواج البحر الهاديء تحيط بقريته الصغيرة ..تتماوج بظلال معتمة إلا من أضواء ترامت هنا وهناك لقناديل تعلقت بين جدران البيوت علّها تبدد القليل من حلكة الأزقة المتعرجة بينها ..
"هكذا أنت يا ليل ..غاية في الروعة " قال لؤي في نفسه .."لهذا أعشق النظر إليك ..وأهيم حبا بعسعساتك .. و أهوى رؤية البدر في سماءك .."
تمدد لؤي على سريره ..وعيناه ما زالتا تحدق خارج جدران غرفته الطينية ..كان النعاس قد بلغ منه حدّ الإستعباد وبدأت أحلامه تتفلت منه ..ككل ليلة ..لتحلّق بعيدا نحو بيوت القرية وجدرانها تلك التي لطالما وقفت دونها ..تحاول بعناد إختراقها ..تحاول بجلد النيل من قسوتها ..
وكانت تلك الأحلام ..ككل ليلة أيضا ..تعود إليه ..من دونما جدوى ..تعود والتعب قد أنهكها ..وصلابة الجدران قد أوهنتها .. تعود والحزن يطوف بها إلى أن تحطّ في أعماق روحه ..لتغفو هي الأخرى ممنية ذاتها بليل آخر قادم قريب ..بصولة أخرى علّ فيها النصر أكيد.
لملم الليل أوراقه الصافية وبدأ يطوي صفحاته المتلالية ..وأفسح يحني قامته أمام حضرة الشمس المهيبة ..وقد بدأت تتكشّف عن طلّتها تشتعل مشرقة بعذوبة ساحرة فوق الأراضي الخضراء ..وفوق كل الدروب المعتمة ..وفوق بيوت القرية ..مشهد لا يفوته لؤي مهما حدث ..فشروق الشمس آية عظيمة ..خسر من فاتته .."واحسرتاه عليهم .." همس لؤي بصوت خافت .."وكل يوم يفوتهم شروق الشمس ..وكل يوم ..هم نائمون .."
حمل لؤي أدواته فوق ظهره ..وأدلف بنشاط كبير ..يقطع الطرقات المتعرجة بين بيوت القرية ليصل الأرض الخضراء التي كان يعمل فيها بكل قوته من شروق الشمس ..وحتى المغيب ..
كان يلقي السلام على من يلقاه من أهل القرية ..بكل حب ..بل بالحب كله ..وبسمته كالشمس المشرقة تأسر كل من يراه ..كان فتيا قويا يتدفق شبابا ..في عيونه طعم التحدي ..وفي جبهته معنى الجلَد .."أما أنت فلا أظن فاتتك تلك الآية العظيمة "قال لؤي بينه وبين نفسه بمجرد أن لمح شيخ المدينة .." فمؤكد تشهد شروق الشمس كل يوم ..كل يوم .."
وألقى عليه التحية وغيظ شديد يعتريه يكبل أنفاسه ...لم يعرف له سببا .. لكن ما كان يعرفه أنه يصيبه عندما تلتقي عيناه بعيني ذالك الشيخ الكبير أو عندما يقترب منه بظله المحدودب وعينيه الواسعتين وشعره الأبيض المتدلي حتى أسفل عنقه ..
ذالك هو شيخ المدينة الذي لا تعصى له كلمة ..صاحب الوقار المنغرس في قلب كل أهل القرية من كبيرها وحتى أصغر طفل فيها .
مضى لؤي محاولا محو ذلك الظل العجوز من مخيلته محاولا الإنتهاء من عمله بسرعة كي يعود باكرا قدر الإمكان ..فأمامه عمل شاق طويل لا ينجح إلا ليلا ..عليه أن يرسل المزيد من الأحلام ..ينسجها بخيوط من نور دافق ويمدها بقوة من سويداء قلبه ..وسموٍ من عميق روحه لتعاود التحدي ..تحدي تلك الجدران العنيدة لتخترقها ..لتحاول إجتيازها تغييّرها ..أرأيتم عليه أن يعود باكرا ..فعمله طويل شاق صعب ..صعب .
ككل ليلة عاد لؤي لفعلته عاد ليرسل أحلامه ليبعثها من رقاد طويل ..يرسمها كأجمل ما تكون ..ويرسلها لأبعد ما يكون علها أن تفعل ..علّها أن لا تعود ..علها أن تجد قلبا آخر ينبضها ..روحا أخرى تعيش بها ..لعلها و لعلها تفعل ..
في تلك الليلة بالذات ..حدث أمر غريب ..لم يلحظه أحد ..ولا حتى لؤي ..ولا حتى فتانا الحالم لؤي ..
وأتى من أقصى الليل صباح جديد ..كا ن ضبابيا ..وباردا .. وضاجا صاخبا ..فلقد كانت صيحات أهالي القرية تعج وتتخابط ..هذا يصرخ من هنا وذاك من هناك "من سرق القرية .." "سُرقنا ..!!." من تجرأ واخترق جدرانها العنيدة ...؟." " ..ويحكم ..من تجرّا ..وفعلها .."
نهض لؤي فزعا .. كاد يقفز فرحا ..ولكن ما لبثت فرحته أن تبددت وسعادته تلاشت حين رأى ذاك الضباب وقد تحلّق حول القرية يلفها يعمي بصرها عن كل شيء .." يا حسرتي عليكم ..حتى في اليوم الوحيد الذي تستيقظون فيه ..تفوتكم تلك الآية العظيمة ..يفوتكم شروق الشمس ..يفو تكم ..ويحول الضباب بينكم وبينه ..واحسرتي عليكم .."
تعالت أصواتهم ..وكأنها تقترب بل تكاد تكون داخل غرفته الطينية الصغيرة ..أصابته قشعريرة خوف أو رهبة ..ولا يدري لم ارتسمت صورة ذالك الكهل أمام ناظريه بظله المحدودب ..عينيه الواسعتين وشعره الأبيض المتدلي أسفل عنقه ..ارتسمت بكل ملامحها البغيضة..أمامه ..
أشاح لؤي وجهه بعيدا عن تلك الرؤيا ..وأقبل بإتجاه الباب لكي يفتحه ..فإذا به أمامه ..ليس طيفا بل هو لحما ودما يشير إليه بعكازه الخشبية القديمة ..ووميضا يشع من حدقتيه نارا لهيبا ..هاتفا بكل حقد "هو ..هذا هو ..أعرف أنه هو رأيته بعيني الواسعتين ..رأيته يعبث ليلا بجدران القرية ..يخترقها ..ينهب أهلها .."تلفلت لأهل القرية شادا إنتباههم ..ثم عاود ليحدّق به لوهلة ..وصاح .."رأيتك ..كنت أنت من فعلها ..نعم أنت "
تعالت أصوات أهل القرية ..بين مستاء ومغتاظ ومتعجب ..."أنت .."!!
لم يستطع لؤي الإحتمال شعر بشيء يكتم أنفاسه يقبضها يخنقها هرب دافعا العجوز بعيدا عنه محاولا التقاط ولو نسمة هواء تعينه على الهرب الإبتعاد ..وركض بعيدا عن وجوههم وعيونهم واستنكارهم .."لا زلتم نيام ..لم تستيقظوا ..لم تشهدو ا شروق الشمس ..ولا بزوغ الفجر ..لا زلتم نيام ..وحده هو اليقظ دائما ..وحده من يعرف متى تشرق الشمس ..كيف يطلع الفجر "ركض ركض محاولا الإبتعاد عن صراخهم وضجيجهم ..كانوا أكثر منه ..كانوا أسرع منه ..تهافتوا عليه ..تحلّقوا حوله ..ضيّقول الخناق عليه .. بدأت قواه تخور فوقعت أشلاءه شيئا فشيئا تسنّد إلى يديه ورأسه تتدلى تحدّق في تربة الأرض .." ليس أنا ..لم أكن ....كنت ..كـ ..ـنـ.. ـت.... أحلم لكم ..من أجلكم كنت أرسل كل أحلامي ..لأجلكم .."
لم يمهلوه قيدوه وساقوه إلى القرية ..حيث شيخ المدينة بإنتظارهم يجلس فوق مقعده يسند ظهره على أحد الجدران ..هدأ الجميع ..بما فيهم لؤي والذي كان التعب قد نال منه ..وهدّه هدّا ..فلم تعد تسمع سوى لهاثه ..رموه أمام قدمي العجوز ..حاول بصعوبة النظر إليه هامسا بصمت مطبق لا يسمعه سوى ذاك العجوز " خلصني ..أخبرهم الحقيقة ..تكلم ..ماذا تتنتظر .."
كانت الشمس تنحني غربا تخبيْ وجهها ..خلف تلال القرية ..وقف العجوز ..يرمي ظله المحدودب فوق لؤي ..يغمره فلا تكاد عيناه ترى سوى السواد ..كان العجوز كله ظلا من السواد ..يبتعد عنه رويدا رويدا .. بعيدا ..ولؤي يتوسل إليه همسا.."أين تذهب ..لا تتركني هكذا ...لن تنال من أحلامي ..أقسم لك ..لن تنال مني .."
تجاهل العجوز همسات لؤي ..ومضى يتسارع ظله خلفه ..ليتلاشي مع آخر ومضة من قرص الشمس ..بين البيوت ..بين الجدران ..بعيدا هناك بين التلال..
/
/
/
/
/
*****
..في غرفة تشبه غرفته الطينية..وباب خشبي يشبه بابها غير أن قفله قد أوصد ونافذة تشبه نافذته المطلة على تلال القرية ..غير أن قضبان من حديد كانت تسيجها ....تمنعه من أن يشتم نسيم الليل ..ولا أن يرتشف نور نجومه المتلالي ..وتمنعه من أن يهب صوب الأرض الخضراء تلك التي كانت تربض بين التلال ..ومن أن يلقي التحية بكل الحب على أهالي أهل القرية التي عشق سماءها ..ولثم ماءها ..وتمرّغ جبينه في طينها لكنها ما كانت تمنعه ..من أن يرسل كل ليلة أحلامه ..كل أحلامه ..ينسجها بخيوط من نور دافق ويمدها بقوة من سويداء قلبه ..وسمواً من عميق روحه ..ويبعثها من الرقاد ..ويبعثها من نوم طويل غريق ...وماكان أبدا يفوّت المشهد ..ولا تغيب عنه تلك الآية الخلاّقة ..كل يوم كل فجر جديد .
منتديات الساخر
منتديات المربد
رواء الأدب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق