.
.
.
أطفأ عقب سيجارته بقدمه ..داسه بقوة ثم ركله بعيدا عنه ..زفر طويلا محاولا التخلص مما تبقى في رئتيه من دخان ..ظل قابضا يديه خلف ظهره ..وظل يتابع سيره جيئة وذهابا في ذلك الشارع الخال إلا منه ومن عامود إنارة واحد ..كان يزفر هو أيضا ضوءه بشكل متقطع .
كانت عقارب الساعة التي لم يكن يحملها تشير إلى الثالثة صباحا ..وكان الصمت قد أطبق تماما , لا ..ليس تماما كانت هناك بعض الأصوات ,مواء غريب لقطة تبدو مستوحشة , عواء كلب بعيد جدا ..وصفير منتظم لصرار ليلي .
نظر إلى أعلى العمارة التي كان يتمشى قبالتها منذ ساعات ..إلى الطابق الثالث ..الشقة الغربية تحديدا..كان هناك ضوء خافت ينبعث من غرفة والدته ..علم أنها في تلك اللحظة كانت تقف بخشوع وهيبة بين يدي خالقها , علم أنها في تلك اللحظة ستلهج بالدعاء له عل الله يفتح عليه أبواب رزقه ...علم أنها في تلك اللحظة تحديدا ستبدأ بالإستغفار ..
تابع محدقا بشغف بقية البيوت والتي كانت تحيط به متلصصة على أرَقِه ..لم يلحظ من قبل كم تبدو الحارة جميلة ليلا و هادئة ..كأنها ذاك الطفل المشاكس المشاغب والذي ما إن يغمض عينيه ويغرق في سباته حتى يستحيل ملاكاً .
نسمة باردة سرت من حوله اقشعر لها بدنه ..تحسس علبة سجائره , أخرجها من جيبه هزها بعنف محاولا أن يخرج منها سيجارة جديدة ..ضغط العلبة بكفه متأففا وقذفها بعيدا باتجاه الحاوية المتكدسة بالكثير من أكياس القمامة بعد أن تبين له أنها فارغة .
"يجب أن أتوقف عن تناول هذا السم ..!" همس بينه وبين ذاته ..أعاد يديه خلف ظهره ..وتابع بخطوات متثاقلة ..نظر مرة أخرى نحو الضوء الخافت المنبعث من غرفة أمه ..لم يتمكن من التحديق طويلا ..أشاح بنظره خَجِلا ..كان يعلم أنّه يُشعرها بالخيبة ..وكان يعلم أنها لا تزال تعزّي نفسها بالصبر ..وكان يعلم أنه لا يفعل أي شيء حيال ما تعاني منه .
لوهلة مرّ في خياله كيف كانت تفاخر به وهي تسرح شعره الكثيف بعناية فائقة .."بكرة إن شاء الله رح تصير دكتور كبير ..وتساعد خواتك.."
"جا بكرة يمّا...إيييييه..جا بكرة .." تنهد بشدّة راكلا حصاة صغيرة نحو البعيد
عاد يتأمل زوايا الحارة محاولا طرد تلك الوساوس من رأسه ..في تلك الزاوية تحديدا تلعب عادة بنات أم جعفر ..بناتها شقيات جدا ..لا يهدأن طوال النهار وهي لا تمّل من كثرة العناية بهنّ..
"الله يعينها عليهم.." قالها متصنعا ابتسامة ..
..وعلى هذه العتبة تحديدا يجلس كل يوم أبو محمد الخضرجي يرعى دكانه ويرتشف كوب الشاي الأخضر ..وحين تجلس إليه يبدأ بالحديث عن الشاي الأخضر وفوائده الجمّة ..
أبو محمد يكسب رزقه بشكل جيد ..يعتني بعائلته بالإضافة إلى والده المقعد..
"لست أدري ما الذي كانت تحدثه به أمّه حين كانت تسرّح له شعره" قالها ساخرا..
نظر مرة أخرى باتجاه الضوء الخافت ..
"يمّا لازم تبطل دخان ..وبعدين كثر من الإستغفار ..والله رح يوفقك"
مسح بيديه وجهه محاولا تدارك دمعات اغرورقت في عينيه ..استغفر وحنى رأسه باتجاه الإسفلت ..
"رضاكِ يمّا.." همسها بوشوشة ..متأملا أن تسمعه .
بدأت الأشجار تتمايل بتناغم مع تلك النسمات الباردة ..عجل في خطواته متجها نحو العمارة الإسمنتية والتي كانت معتمة تماما ..دخل بخفة كي لا يزعج أهل البيت ..طرق باب غرفة أمّه ..كانت ساجدة ..انتظر حتى أنهت صلاتها ..جلس بجانبها قبّل رأسها وتشمم يدها مقّبّلا ومرددا "رضاك يمّا.." ..
تلفتت إليه .."الله يرضى عليك يمّا.."
مررت كفها على خدّه ..ورمقته بنظرة حنو لا تتقنها إلاّ هيَ ..
صدح صوت المؤذن ..مبدّدا صوت الهدوء ..سرى الدفء بين جنبيه ..فسارع باتجاه المسجد القريب ..
وبعد أن أدى صلى الفجر ..دعا الله أن يوفقه هذا اليوم أيضا وأيضا في بحثه المضني عن عمل ..
تناول أوراقه ..دلّك أسفل عينيه محاولا إخفاء آثار السهر ..أمسك مقبض الباب ..تنهد بعنف..
تمتم مستغفرا ..وصاح بصوت عال
"دعواتك يمّا.."
منتديات الساخر
.
.
أطفأ عقب سيجارته بقدمه ..داسه بقوة ثم ركله بعيدا عنه ..زفر طويلا محاولا التخلص مما تبقى في رئتيه من دخان ..ظل قابضا يديه خلف ظهره ..وظل يتابع سيره جيئة وذهابا في ذلك الشارع الخال إلا منه ومن عامود إنارة واحد ..كان يزفر هو أيضا ضوءه بشكل متقطع .
كانت عقارب الساعة التي لم يكن يحملها تشير إلى الثالثة صباحا ..وكان الصمت قد أطبق تماما , لا ..ليس تماما كانت هناك بعض الأصوات ,مواء غريب لقطة تبدو مستوحشة , عواء كلب بعيد جدا ..وصفير منتظم لصرار ليلي .
نظر إلى أعلى العمارة التي كان يتمشى قبالتها منذ ساعات ..إلى الطابق الثالث ..الشقة الغربية تحديدا..كان هناك ضوء خافت ينبعث من غرفة والدته ..علم أنها في تلك اللحظة كانت تقف بخشوع وهيبة بين يدي خالقها , علم أنها في تلك اللحظة ستلهج بالدعاء له عل الله يفتح عليه أبواب رزقه ...علم أنها في تلك اللحظة تحديدا ستبدأ بالإستغفار ..
تابع محدقا بشغف بقية البيوت والتي كانت تحيط به متلصصة على أرَقِه ..لم يلحظ من قبل كم تبدو الحارة جميلة ليلا و هادئة ..كأنها ذاك الطفل المشاكس المشاغب والذي ما إن يغمض عينيه ويغرق في سباته حتى يستحيل ملاكاً .
نسمة باردة سرت من حوله اقشعر لها بدنه ..تحسس علبة سجائره , أخرجها من جيبه هزها بعنف محاولا أن يخرج منها سيجارة جديدة ..ضغط العلبة بكفه متأففا وقذفها بعيدا باتجاه الحاوية المتكدسة بالكثير من أكياس القمامة بعد أن تبين له أنها فارغة .
"يجب أن أتوقف عن تناول هذا السم ..!" همس بينه وبين ذاته ..أعاد يديه خلف ظهره ..وتابع بخطوات متثاقلة ..نظر مرة أخرى نحو الضوء الخافت المنبعث من غرفة أمه ..لم يتمكن من التحديق طويلا ..أشاح بنظره خَجِلا ..كان يعلم أنّه يُشعرها بالخيبة ..وكان يعلم أنها لا تزال تعزّي نفسها بالصبر ..وكان يعلم أنه لا يفعل أي شيء حيال ما تعاني منه .
لوهلة مرّ في خياله كيف كانت تفاخر به وهي تسرح شعره الكثيف بعناية فائقة .."بكرة إن شاء الله رح تصير دكتور كبير ..وتساعد خواتك.."
"جا بكرة يمّا...إيييييه..جا بكرة .." تنهد بشدّة راكلا حصاة صغيرة نحو البعيد
عاد يتأمل زوايا الحارة محاولا طرد تلك الوساوس من رأسه ..في تلك الزاوية تحديدا تلعب عادة بنات أم جعفر ..بناتها شقيات جدا ..لا يهدأن طوال النهار وهي لا تمّل من كثرة العناية بهنّ..
"الله يعينها عليهم.." قالها متصنعا ابتسامة ..
..وعلى هذه العتبة تحديدا يجلس كل يوم أبو محمد الخضرجي يرعى دكانه ويرتشف كوب الشاي الأخضر ..وحين تجلس إليه يبدأ بالحديث عن الشاي الأخضر وفوائده الجمّة ..
أبو محمد يكسب رزقه بشكل جيد ..يعتني بعائلته بالإضافة إلى والده المقعد..
"لست أدري ما الذي كانت تحدثه به أمّه حين كانت تسرّح له شعره" قالها ساخرا..
نظر مرة أخرى باتجاه الضوء الخافت ..
"يمّا لازم تبطل دخان ..وبعدين كثر من الإستغفار ..والله رح يوفقك"
مسح بيديه وجهه محاولا تدارك دمعات اغرورقت في عينيه ..استغفر وحنى رأسه باتجاه الإسفلت ..
"رضاكِ يمّا.." همسها بوشوشة ..متأملا أن تسمعه .
بدأت الأشجار تتمايل بتناغم مع تلك النسمات الباردة ..عجل في خطواته متجها نحو العمارة الإسمنتية والتي كانت معتمة تماما ..دخل بخفة كي لا يزعج أهل البيت ..طرق باب غرفة أمّه ..كانت ساجدة ..انتظر حتى أنهت صلاتها ..جلس بجانبها قبّل رأسها وتشمم يدها مقّبّلا ومرددا "رضاك يمّا.." ..
تلفتت إليه .."الله يرضى عليك يمّا.."
مررت كفها على خدّه ..ورمقته بنظرة حنو لا تتقنها إلاّ هيَ ..
صدح صوت المؤذن ..مبدّدا صوت الهدوء ..سرى الدفء بين جنبيه ..فسارع باتجاه المسجد القريب ..
وبعد أن أدى صلى الفجر ..دعا الله أن يوفقه هذا اليوم أيضا وأيضا في بحثه المضني عن عمل ..
تناول أوراقه ..دلّك أسفل عينيه محاولا إخفاء آثار السهر ..أمسك مقبض الباب ..تنهد بعنف..
تمتم مستغفرا ..وصاح بصوت عال
"دعواتك يمّا.."
منتديات الساخر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق