الأحد، 8 أغسطس 2010

يومَ أرْخت الياسمينةُ ..عِطرها..!

"والأيام تنقص منّا ..وتعيد تشكيل ملامحنا ..


نحن أضعف ..نحن أوهن ..

وكل يوم نعيشه ...نكتشفه ..يمتصّنا ..

ولا عودة ..!"





















جلست متكئة حوالين نافذتها ذات ليلة أنعشها الأرق ..تبعثر أغصانها المتعرّشة بعشوائية منتظمة ..تسلِّقها ملتفة بشغف حول ضوء خافت يأتي من ركن بعيد من تلكم الغرفة ..!

اعتادت أن ترتشف قدحا من نور الشمس كل صباح حتى يتسنى للحياة أن تسري في عروقها ..وحتى يشتد عودها ويصبح قادرا على حمل قوته وقوت أفرعه الجانحة ،

لم تفعل ..!

كان المرار الذي ينتشر بنشوة شديدة ليلتها قد استحال لحبيبات سوداء بنكهة القهوة ولذتها؛ كافيا لإيقاظ كل إيقاعات الحياة فيها ..وكانت ذرات البرد التي تتراص بين سحب الضباب الكثيف من حولها كحبات هال تزيد من قوة الطعم ..وكثافة النكهة !



كان عطرها يتبختر بين بتلات زهراتها البيضاء اليانعة ..تتفتح بنداوة شديدة ..وبنصاعة باهرة ..، وكانت قطرات الندى تتدحرج رقراقة بوقار وتؤدة تجرّ الواحدة أختها ..وتهوي أرضا متكسرة كبلّورة عبقة على الإسفلت الأسود..

.



استطاعت أنفاسها القوية المطعّمة برحيق آخّاذ قشع غمم الضباب ..وشق طريق متعرج لبصيص رؤية كانت تتلمسها ، أخذت تقلّب أوجه الأحياء ...وكأنهم صفحات في كتاب مسائي زخم .. تتلوى فوق دثارها _بشغف_ كي تقرأه قبل أن يقنص النوم جفنيها ..!



جلست تسامر المارة والعابرين ..العابثين بسكون ذاك الليل الطويل.. ...غير بعيد.. أبصرته..

كان جوعا يغمس راحتيه الممرغتين بالتعب ما بين إدام يغرف به ..وبقايا فتات ..تزاحمه عليه بعض الكلاب الضالة ..! ضريرا يتسند حوائط ذل ..يتوكأ على عصا تهشّ ما تساقط عليه من شفقة لا تسمن ..!

آهات تائهة لرقاب مستعبدة تجنزرها أيادي المردة من أولي الأمر ..!

كان يأسا رغم شدة البرد حارّا ..مفعما بالنشاط ..وكان قهرا أنيق المظهر ..ذا ابتسامة صفراء ..لا تسرّ اليقظين ..!

كلها تسكن الأرصفة ..تلتحف الأدخنة المتصاعدة من المقاه أو الأفواه !



تتابعت الطرقات تطوى غير بعيد أمامها _مكرهة_..!

..وهي لا زالت ترخي من عطرها ما يقشع الضباب ..ويشق لها الدروب ..ويجلي لها الطرقات .._شَغِفَة_ ..!

حدقات جاحظة كانت تلتهم البرد بجمود لا ترمش ..ولا تنبس ..ولا تقرّ..!

تستتر بين الأزقة تخشى سوط جلاد قريب أو آت..وحوائط متقاطعة تارة ومتجاورة تارة أخرى تعلقت عليها بعض اطارات لنوافذ مقفلة ..محكمة..تتبدى من خلال زجاجها ستائر سوداء ..لا ترى من خلالها بقدر ما تسمع من أنّات لقلوب ..مجروحة ..مكلومة ..موجوعة تسكب الآهة تلو الآهة بدقّة كبيرة و... صمت!

وكانت لا تزال ترخي من عطرها ..وترخي ..فتشق لها الدروب المزيد ..وتتكشف لها خبايا الأزقة ..وتنبري أمامها أسرار ما خلف الجدران ....ما بين الثنايا ..

ظلام شديد ..حلكة كبيرة ..متاهات ..أوجاع ..غصص وألم ..!

أكبر ..أضخم ..أعظم ..من أن تحتمل..!



ما الذي أيقظها ..!



ما الذي أقض مضجعها ..ما الذي أقلق هدأتها ..!

ولا زالت تنقص من أطرافها ..وينفذ منها عبقها ..ويتفلت عنها رحيقها ..حتى آخرها ..حتى آخر جنحة من الليل الراكد الحزين ..وحتى أول خيط من نسج صبح عليل ..



على غير عادتها ..وكما لم يرها أحد من قبل ..كانت شاحبة البياض ..باهتة العطر ..ذابلة العود ..منهكة حتى آخر بتلة في زهراتها ...!!



من أشرع للياسمين طرقات المدينة المعتمة ..من أباح لها أزقتها المظلمة ..؟ من أطلق العنان لعطرها ترخيه ذات حلكة ..ذات غلسة ..ذات خلسة!!

من مكر بها حتى تفعل !

كيف لم يرتفع برجها ..لم توصد نافذتها ..لم تهذّب أغصانها الجامحة ..!

كيف لم يحقن شذى عطرها الأخّاذ..ولم تلملم ..قطراته العبقة ..!

من مكر بها حتى تفعل ..!





هشة هي زهرة الياسمين ..طريّ عودها ..غض غصنها ...طيّار عطرها .أخفّ من أن تتجاذبه الأرصفة ..أو تلتوي عليه الأزقة..!

أضعف هي من أن تعبث بها أيادي العابرين ..أو أن تشتمها أنوفهم المرتفعة ..!

كانت كل الأشياء تمتصّها أكثر ..كي تعرفها أكثر..!

وتفقدها أبكر..!

تمتص رحيقها وصمتها وهدوءها ..! ..تمتص الأمان في جذورها ..السكينة في زهرها ..الثبات في أغصانها ..وكانت هي _الياسمينة_ ..تعرفها أكثر _الأشياء_!



من قال أنها ستنبت من جديد كما كانت..!

..أو أن زهراتها ستبعث على ما كانت !!..من يجزم أن عطرها سيجروء أن يعيد الكرة ..ويجوب الشوارع المسفلتة أو الزوايا الموحشة ..!







سترتفع كل صباح ياسمينة ....وسترتشف كوبا من أشعة الشمس ياسمينة .. وسيشتد عودها الياسمينة ....لكنها أبدا بعدها لم/ لن تزهر..كما كانت..!

أبدا..لن تبعث على ما كانت عليه!



لن تفعل!









_لن أفعل_(!)




منتديات الساخر
منتديات النوارس الأدبية





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق