السير في شوارع عمان متعب للغاية لا أتحدث عن السير في الشوارع العامة الرئيسة ؛ تلك التي تزدحم بالسيارات والجسور الخاصة بعبور المشاة ؛ والتي ترغم الكثير من المشاة على اقتراف جنحة المجازفة بحياتهم على أن" يتشعبطوا "كل تلك الممرات المعلقة في الهواء ليقطعوا للضفة الأخرى من الشارع ..لا أتحدث عن تلك الشوارع التي تمتليء بالكثير من المحلات التجارية و(المولات) وعربات القهوة المترامية على الأرصفة تلك التي تتوقف عندها الحافلات وسيارات الأجرة فقط ؛ حيث يسرع (الكنترول) كي يجلب كوبي قهوة ساخنين واحد له وواحد ل(الشوفير)...؛ هذه الشوارع التي تمتليء بسيارات مسرعة وأخرى مصطفة حوالين المحال الضخمة والتي عادة تكون محال أثاث ،كهربائيات ، مطاعم فخمة أو صالات لعرض السيارات...والتي عادة أيضا ما تقطعها راكبا ..لأنها ليست للسير على الأقدام..
فهذه الشوارع تمررني _حين أحظى بمقعد شاغر في باص عمان - السلط..هذا الذي عبره أستطيع أن أقطع الشريان الرئيس لعمان ببساطة .._ إلى تلك الشوارع المتعِبة تلك التي تكون في الخلف لضواحي وبيوتات تتراكم بهدوء وأناقة..
أغلب الدوائر الرسمية التي أريد تحتل مكانا بين تلك البيوت في تلك الضواحي ؛ وأغلب تلك الدوائر لا تصلها إلا بسيارة أجرة خاصة أو مترجلا! وأعتقد أن أحدا لا يفعل الثانية !
وكي لا أتكبد عناء أشياء كثيرة كأحاديث جانبية يتشكى فيها سائق الأجرة من وعثاء الحياة وعناء العمل ..أفعل أنا الثانية!
أترجل في تلك الشوارع الهادئة البعيدة المنزوية ، أحيانا تكون صعودا كما يليق بجبال عمان وأحيانا أخرى هبوطا ولكنها لا تختلف في الصمت او الأناقة والتنسيق
هل جربت ذلك في يوم ما .؟
عليك أن تفعل .
بين "ابئا طل ابئا سآل .." تارة و "..ع بالي حبيبي .." تارة أخرى و "دير بالك ع بلادك .." تارة ثالثة ..تتقلب مسامعك..
يزيد ما تسمعه من مسجلة الحافلة ما تعيشه من مغامرة الطريق من ازدحامه و تخابط الحافلات بعضها ببعض ، تشاحن السائقين فيما بينهم بمنتهى التهور والاستهتار تراشق الشتائم أو التحيات لبعضهم البعض؛ وأنت جالس منضبط لا تنبس إلا بـ : "أنا " ؛ حين يسألك الكنترول : "مين ظلله باقي يا خوان " أو : " عندك يخوي " ؛ حين يغفل عن مكان نزولك ..بقية الطريق تجلس لوحدك تتأمل الطريق والمحال والناس تترامى هنا وهناك تنتظر من يقلها ربما لموقف رغدان في وسط البلد ..وربما للجامعة أو للعبدلي..أو قد يباغتك الكنترول بفتاة تجلس بجانبك فتجلس متقوس الظهر متكوم القدمين على حافة المقعد..آه ..طبعا هذا يحدث مع النساء فقط !
الفتيات فقط يجلسن ثلاثة في مقعد مخصص لإثنيين أو إثنتين في مقعد مخصص لشخص واحد الشباب لا يفعلون هذا أبدن!..
رغم الزحمة ووسط كل هذا ..أصبحت أنصِت كثيرا لما يذاع، وأبدأ في تتبع ما يحب السائق أو ما يرغمك على سماعه .
وعلى ما يبدو أفادني هذا بشكل أو بآخر ،فلم أعد حقيقة أشعر بالغربة حين أتواجد في أعراس النساء!!
هل ركبت مرة باصات عمان السلط؟
هل سمعت إذاعة (حياة إف. إم. ) صباحا في إحدى الحافلات؟
كان يقول (عدنان حميدان) موجها حديثه (للشوفيريه) وأصحاب (التكاسي) :"إنتوا بس شغلوا حياة اف ام واتركوا الباقي علينا"
..الله يسهل عليك يا عدنان
تتورم قدماي من المشي في تلك الشوارع كلما فعلت ..ستقول لي "حذائك" ليس ذاك ..أي حذاء أرتديه يفعل بي هذا وكلما عدت إلى البيت سارعت بالسير حافية على البلاط البارد كي فقط تخف الثآليل التي قرحت قدمي ..حسنا ربما مقاس حذائي غريب 37 و(نص)! (النص ) هذا ربما هو ما يفتعل تلك المشاكل وليست الطريق ! .
الشوارع هناك صامتة –أخبرتك-!..منسقة جدا..الأبواب الزجاجية ضرورة حتمية لكل مدخل ، تملأ حيزه كنبات من الخيزران إنه المفضل هنا وكأنه علامة للبذخ !..والكثير من القوارير الضخمة جدا ، والأزهار في مثل هذا الوقت تكون في أوج نموها ..الألوان يا إلهي ..
لن تصدق..حتى ترى ..
أوَ تراك تفعل؟
لماذا طلبت مني أن ألتقيك هناك؟ في ذاك المقهى بالتحديد؟
لا أنا لا أفعلها عادة ،لا أجلس في هكذا مكان ولوحدي ..وأنت تعلم أنك لن تأتي فلماذا فعلت ذلك ..؟
جلست وطلبت كوب قهوة ..أحضر لي النادل وهو يبالغ في الإبتسام ..ليس من عادة النساء أن يجسلن هنا ؛ على الأقل ليس وحدهن !
لا بأس سيتجاوز الأمر بعد رحيلي بدقائق ..
ألا تراه سيفعل ..؟
لست أدري إن كنت سأبقى هنا أم أتابع سيري في شوارع عمان الغربية
لن تجد مارا ولا عابرا بالكاد ستجد سيارة تمر بجانبك تنبهك بزامور قوي
لا ألتفت
أتنحى جانبا مقتربة من الرصيف أكثر و أظل أنصت لأفكاري تتصارع داخلي بمنتهى العناد..وكثيرا ما تضيع بي الطريق الملتوية هناك والتي تخلو من أي شارات لدلالة على تجاه سيرك ..فأتبع حدسي أيضا..وأيضا حتى أصل للشارع الرئيس !
خرجت..فالنظرات لا زالت تتابع جلوسي وحدي هناك في ذلك الركن الذي خطر لي أنك قد تنتظرني فيه.
أظنني عدت للمشي
ظللت أمشي، العودة ليست بتلك السهولة ايضا
اعتدت السير طويلا واعتدت التقرحات في قدمي واعتدت الإزدحام وحدّة صوت فيروز أو "..على طريق السلط ياما مشينا ..وان تعبت الرجلين نمشي ع ادينا.." أو أي شيء تضج به المحال التجارية أو الحافلات وأحيانا سيارات الكشف التي يفضلها الشباب .
ألِفت كل الأشياء جدا ..حتى أن تجلس عجوز بجانبي فتبادرني بابتسامة حنونة لأرد عليها بابتسامة بريئة كإذن مني كي تسترسل بأي حديث تريد..وتفعل ..فأظل أنصت لها بمنتهى اللباقة إلى أن تنصرف إلى حيث وجهتها .أو حين تسألني إحداهن عن مكان ما فأدلها رغم أنني لا أعرفه.. ولكنها سرعة البديهة يا صاح .
النظر في واجهات المحال التجارية متعة ..أمارسها لا كعادة النساء للشراء أو ممارسة هواية (الشوبنغ ) ولكن كي أتأكد أنني لا أرغب في الشراء .فلست أدري أحيانا ما هي نوع الذائقة التي يتمتع بها أصحاب تلك المحال ..؟ ولكني أحب النظر وتقليب الواجهات وألبي دعوة البائع دائما حين يقول لي "تفضلي خيتي . عنا تشكيلة جديدة"!
أقلب الأشياء وأبدي إعجابي أحيانا أخرى إمعانا في اللباقة ولكن أعلم تماما أنها لا تناسب ذوقي.
فإما أن تكون القطعة متقنة جدا أو لا داع للشراء من أصله...وفي كل شيء هكذا تسير الأمور معي إما الأفضل جدا ،أو ليس هناك من داع لأي شيء ..سأقبل بأي شيء وأي كان ..أنا أتفادى
( النص) ألا ترى!
أحب أن أبتاع بطريق العودة من محل( أبو الحافظ) بعض التمر رفيق قهوتي الحميم ..أحب بقالته الصغيرة المنزوية ، نتزاحم فيها كثيرا كلٌ يبحث عن طلبه، لديه الكثير من الأعشاب التي تصلح لشتى الأمراض ، أحيانا تجد البعض يهمس له ثم يشير برأسه مومأ فيحضر له طلبه بالكثير من الحرص ،وأحيانا تجد أحدهم يتلفت يمنة ويسرة شارحا للآخرين ما يعاني منه ومدى أهمية هذه العشبة التي قام بطلبها في شفائه، فيبادره الأخرون بالثناء على العشبة وربما إدعاء تجربتها أو تأكيد (مفهومية) أبو الحافظ في إنتقاء أعشابه.
لديه بعض النباتات والزهور أيضا ؛ تتوفر لديه فقط في هذا الوقت من السنة .
-" قديش حقها " كانت هذه العجوز الممتلئة بتجاعيد تدل على عدد السنون التي أمضتها تسأله وسط الزحام
..-" 75 قرش يا حجة "
-"كثير يا خالتي"
مو كتير والله يا حجة ..بس لو كنت مكانه لأعطيتك ياها ببلاش ..
تذكرت زرايع جدتي لأمي كانت كغابة في المنزل ، تذكرت كيف أنها ماتت حين ماتت جدتي بقولوا "الزريعة بتلحق صاحبها" ..
"هي الزريعة رح تموت وراك يا حجة " كدت أهمس لها ..تأملت وجهها مرة أخرى وكأني أتشبع منه ،ثم حملت 2 ك تمر _فهذه المرة نوعه جيد جدا لذا ضاعفت الكمية_ ومضيت ..
الشوارع وحيدة جدا حاول فقط حين تسير فيها أن لا تحدق بوجوه المارة وستشعر كم هي وحيدة .
هل أتيت ..هل كان ذلك أنت الذي دخل للتو ذلك المقهى .؟
ربما!
فكل هذا لا يهم ..لأنه ليس من المفترض أن نلتقي ..أحيانا حين تسرح بي الأفكار _وأعتذر_ وقتها حين أنتهك حرمتك في خيالي وأتتبعك وأجعل أتلصص عليك ،وأصر على أن أراك في مخيلتي سعيدا جدا، تزوجت وأنجبت الكثير من الأطفال، زوجتك تحبك جدا وأنت تحبها والأهم أنها تعتني بك جيدا؛ ..أظنك تعمل في مجال التصوير أو التصميم الفوتوغرافي وأظنك ناجحا جدا ..أتخيلك وأنت تطرح أعمالك فتتنافس عليك الشركات الكبرى ..وأراك لبقا جدا وطفولي أحيانا كثيرة!
ألست كذلك ؟!.
أتخيل كم تحب السفر وكم تحب أن تتأمل أطفالك من بعيد حركاتهم ضحكاتهم حزنهم وحتى تمردهم ..وكم تحب أن تستفز زوجتك الطيبة وهي لا تفهم ما تريده أنت من كل هذا ..فتضحك وتضم رأسها إلى صدرك فتهمس هي لك "الله يخليلي ياك" فتبتسم أنت لها بمنتهى الرضى.
أتخيل حياتك بمشاكل صغيرة مؤقتة ومنضبطة ، فأنت تمسك بزمام الأمور دوما وتحرص كثيرا على أن تدرس خطواتك قبل الإقدام عليها بمنتهى الدقة ..ثم أتخيل أنك لا تعيش حياة باذخة لكنها كافية للحد الذي تريد ماديا ..وأتخيل أنك تملك الكثير من الدهشة لكل شيء ، و"تهتم" ..بكل شيء وبأي شيء .
أشياء كثيرة قد أتخيلها عنك قد تكون حقيقة وقد لا تكون وكل هذا لا يهم ..فليس من المفترض أن أعرف عنك أي شيء.
أحيانا أتخيل أنك تعيش قريبا جدا مني ..وربما تعرفني معرفة عابرة أو سطحية أو ربما عملت معك في ذات المجال ذات مرة ربما أعجبك عملي جدا ،أو ربما وجدته يشبه عملك جدا فكرهته ،فنحن أحيانا نكره من نرى أنفسنا فيهم حين لا نعرفهم !
ربما صافحتني _في خيالي _ ممتناً لجهودي في المشروع الذي تعاونا عليه ..وربما همست في ذاتك "كم هي رائعة" أو لم تقل ذلك ؟
بربك؟!
أتخيل أنك أصريت على والدتك ذات يوم أن تزور والدتي زيارة ودية وتطلب منها أن ترانى ولكن أمي كانت مشغولة كالعادة وقتها ووالدتك لم تحاول مرة أخرى ..كالعادة أيضا! وأتخيل أنه في اليوم التالي جاء أحدهم بصحبة والدته وانتهت هناك حكاية كان يجب أن تبدأ!
أتخيل وجودك في مكان ما في هذه الحياة وفي هذا الوجود وأتخيل لو أنني أعرفك .
-لا تقلق - لن أقترب منك كثيرا فقط أريد أن أعرفك من بعيد فقط .أتخيل أنك ستمر قريبا من هذه الكلمات ، وربما ستثني عليها وربما لن تلقي لها بالا وربما فعلا تذكرك بتلك الحديقة التي جلست فيها وذلك المقعد الذي لم تمسح غباره حين جلست عليه دون أن تدري لمَِ!
لا أقصد أي شيء ولا تظن أنني أحاول طرق الباب ..ولكن هذه متعة أن يكون لديك خيار حتى لو لم تختره ! لاحظ حتى أنني أتحدث معك في مكان عام! لم أختلي بك ولا واعدتك سرا حتى أنك حين كنت أتحدث معك ربما قرأني كل الناس ..عداك!
أرأيت كيف تتفجر الخيالات لمجرد السير في شوارع عمان .
وكأنك قد جلست في مقعدي و طلبت القهوة أيضا!
هل ستطيل الجلوس هناك ؟
هل ستتأمل المارة كما فعلت أنا وهل ستتجاوز النظرات التي ستلاحقق لمجرد أنك تجلس لوحدك كما فعلت أنا ؟
تعال ..أريدك الآن أن تخرج من هذا المكان ..أريدك أن تذهب وتنتظرني في الحديقة التي في جبل اللويبدة ..فهذه الحديقة هادئة جدا _على ما أذكر _..ستجد شجيرات يسمونها (الحزينة) وستجد هناك مقعد تتدلى فوقه هذه الشجيرات بأغصانها وأوراقها الناعسة ، إجلس وانتظر مجيئي الذي لن يحدث أبدن ،إنتظر كما فعلت أنا وانتظرتك في المقهى الذي طلبت ..ستجد أثار أقدامي تعلو هذا المقعد لا تمسحها دع غبارها يعلق بملابسك ..فهذا يحد من الوحشة صدقني!..أقدامي وقتها كانت صغيرة لم يكن هناك أي (نص) في نمرة حذائي ،كنا نتقافز لعبا وطيشا وكنت أحب الجلوس على مسند المقعد وأضع قدمي الصغيرتين فوق المقعدة ..أغمض عيني وأرفع رأسي للأعلى .. ربما كي تغطيني الأغصان أكثر فلا أرى أحد فأشعر أنني لوحدي في عالمي الأخضر !
لم أجد باصات السلط عمان ..ركبت باصات صويلح ولأني أعيش في (النص) بين محافظتين كان علي أن أطلب سيارة أجرة خاصة وأن أتورط بحديث جانبي مع السائق ، أقسمَ لي أنه يبدأ عمله من بعد صلاة الفجر ، وتحدث كثيرا عن زوجته صغيرة السن وعن طفلة أكد الطبيب له أنه إن لم يتدخل لإجهاضها سيخسر زوجته ، وأقسم كثيرا أنه كان يتصدق كثيرا وقتها كي ينجي الله طفلته وزوجته ..وأقسم أكثر وهو يتحدث عن جمال طفلته وصحتها وكيف حماها الله من تدخل الطبيب الغبي .
كيف وجدت الحديقة؟ أعجبتك؟!
لا زلت تنتظر ..
لا يوجد وقت محدد، عليك أن تنتظر بقدر ما تريد أوحتى تشعر أنك لا تريد .
فليس من المفترض أن آتي ..وليس من المفترض أن تنتظر..وكل هذا لا يحدث أصلا .
منتديات الساخر